سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
والمقصود من هذا الكلام تبكيت من حكى عنهم أنهم عند فرض القتال يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، فقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} فبين تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت، والجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة، فاذا كان لابد من الموت، فبأن يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك، ونظير هذه الآية قوله: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 16] والبروج في كلام العرب هي القصور والحصون، وأصلها في اللغة من الظهور، يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها، والمشيدة المرتفعة، وقرئ {مُّشَيَّدَةٍ} قال صاحب الكشاف: من شاد إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازا، كما قالوا: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر قائلها.
قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد خائقين من الموت غير راغبين في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى، وفي النظم وجه آخر، وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فان أصابوا راحة وغنيمة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم مكروه قالوا: هذا من شؤم مصاحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها؛ الأول: قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء والضراء} فعند هذا قال اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل، نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا: هذا من عند الله {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد، وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] وعن قوم صالح: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النمل: 47].
القول الثاني: المراد من الحسنة النصر على الاعداء والغنيمة، ومن السيئة القتل والهزيمة قال القاضي: والقول الأول هو المعتبر لأن اضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة، أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة، لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله، وأقول: القول كما قال على مذهبه، أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره.
المسألة الثانية: اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية، والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] وقال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يفيد العموم في كل الحسنات، وكذلك قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} يفيد العموم في كل السيئات، ثم قال بعد ذلك: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله، ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله، وهو المطلوب.
فان قيل: المراد هاهنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية، ويدل عليه وجوه:
الأول: اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما.
الثاني: أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني، إنما يقال أصبتها، وليس في كلام العرب أصابت فلانا حسنة بمعنى عمل خيرا، أو أصابته سيئة بمعنى عمل معصية، فعلى هذا لو كان المراد ما ذكرتم لقال ان أصبتم حسنة.
الثالث: لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعة وعلى المنفعة، وهاهنا أجمع المفسرون على أن المنفعة مرادة، فيمتنع كون الطاعة مرادة، ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.
فالجواب عن الأول: أنكم تسلمون أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ.
والجواب عن الثاني: أنه يصح أن يقال: أصابني توفيق من الله وعون من الله، وأصابه خذلان من الله، ويكون مراده من ذلك التوفيق والعون تلك الطاعة، ومن الخذلان تلك المعصية.
والجواب عن الثالث: أن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة، فان كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة، وإن كان منتفعا به في الدنيا فهو السعادة الحاضرة، فاسم الحسنة بالنسبة إلى هذين القسمين متواطئ الاشتراك، فزال السؤال. فثبت أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه، ومما يدل على أن المراد ليس إلا ذاك ما ثبت في بدائه العقول أن كل موجود فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، والممكن لذاته كل ما سواه، فالممكن لذاته إن استغنى عن المؤثر فسد الاستدلال بجواز العالم وحدوثه على وجود الصانع، وحينئذ يلزم نفي الصانع، وإن كان الممكن لذاته محتاجا إلى المؤثر، فاذا كان كل ما سوى الله ممكنا كان كل ما سوى الله مستنداً إلى الله، وهذا الحكم لا يختلف بأن يكون ذلك الممكن ملكا أو جمادا أو فعلا للحيوان أو صفة للنبات، فان الحكم لاستناد الممكن لذاته إلى الواجب لذاته لما بينا من كونه ممكنا كان الكل فيه على السوية، وهذا برهان أوضح وأبين من قرص الشمس على أن الحق ما ذكره تعالى، وهو قوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله}.
ثم قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: انه لما كان البرهان الدال على أن كل ما سوى الله مستنداً إلى الله على الوجه الذي لخصناه في غاية الظهور والجلاء، قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وهذا يجري مجرى التعجب من عدم وقوفهم على صحة هذا الكلام مع ظهوره.
قالت المعتزلة: بل هذه الآية دالة على صحة قولنا، لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق هذا التعجب معنى ألبتة، لأن السبب في عدم حصول هذه المعرفة هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها، وذلك يبطل هذا التعجب، فحصول هذا التعجب يدل على أنه إنما تحصل بايجاد العبد لا بايجاد الله تعالى.
واعلم أن هذا الكلام ليس إلا التمسك بطريقة المدح والذم، وقد ذكرنا أنها معارضة بالعلم.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أنهم لا يفقهون هذه الآية المذكورة في هذا الموضع، وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث، والحديث فعيل بمعنى مفعول، فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا.
والجواب: مرادكم بالقرآن ليس إلا هذه العبارات، ونحن لا ننازع في كونها محدثة.
المسألة الثالثة: الفقه: الفهم، يقال أوتى فلانا فقها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: فقهه في التأويل أي فهمه.


{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}
قال أبو علي الجبائي: قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة، وتارة يقع على الذنب والمعصية، ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} [النساء: 78] وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} فلابد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما، ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين، قال: وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرؤا: {فَمَنْ نَفْسك} فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن.
فان قيل: فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم؟
قلنا: لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فانما وصل اليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الاضافة إليه، وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها، ولا بأنه أمر بها، ولا بأنه رغب فيها، فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى. هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع.
ونحن نقول: هذه الآية دالة على أن الايمان حصل بتخليق الله تعالى، والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية.
إنما قلنا: إن الآية دالة على ذلك لأن الايمان حسنة، وكل حسنة فمن الله.
إنما قلنا: إن الايمان حسنة، لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح، ولا شك أن الايمان كذلك، فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت: 33] المراد به كلمة الشهادة، وقيل في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] قيل: هو لا إله إلا الله، فثبت أن الايمان حسنة، وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} وقوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} يفيد العموم في جميع الحسنات، ثم حكم على كلها بأنها من الله، فيلزم من هاتين المقدمتين، أعني أن الايمان حسنة، وكل حسنة من الله، القطع بأن الايمان من الله.
فان قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الايمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة، وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر؟
قلنا: جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الايمان والكفر عندكم، ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الايمان، ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الايمان، فكان الايمان منقطعا عن الله في كل الوجوه، فكان هذا مناقضا لقوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} فثبت بدلالة هذه الآية أن الايمان من الله، والخصوم لا يقولون به، فصاروا محجوجين في هذه المسألة، ثم اذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله.
قلنا فيه وجوه:
الأول: أن كل من قال: الايمان من الله قال: الكفر من الله، فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لاجماع الأمة.
الثاني: أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لايجاد الكفر إما أن تكون صالحة لايجاد الايمان أو لا تكون، فان كانت صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه، وإن لم تكن صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده، وذلك عندهم محال، ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور، وذلك يمنع من كونه قادرا عليه، فثبت أنه لما لم يكن الايمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه.
الثالث: أنه لما لم يكن العبد موجدا للايمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى، وذلك لأن المستقل بايجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده، ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الايمان والمعرفة والحق، وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ، فاذا كان العبد موجداً لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق، وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق، فاذا كان الايمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده، فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى. والحاصل أن الشبهة في أن الايمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته، فلما بين تعالى في الايمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه، فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا.
أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}.
فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال حكاية عن ابراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء، بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب، فكذا هاهنا، فانه يقال: يا مدبر السموات والأرض، ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس، فكذا هاهنا.
الثاني: أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول ابراهيم: {هذا رَبّى} أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الانكار، كأنه قال: أهذا ربي، فكذا هاهنا، كأنه قيل: الايمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه، بل من الله، فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به ألبتة، أفيدخل في العقل أن يقال: إنه وقع به؟ فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الايمان، والسيئة يدخل فيها الكفر، أما قراءة من قرأ {فَمَنْ نَفْسِك} فنقول: إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه، وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الانكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الانكار هذا الكلام، لأنه لما أضاف السيئة اليهم في معرض الاستفهام على سبيل الانكار كان المراد أنها غير مضافة اليهم، فذكر هذا القائل قوله: {فَمَنْ نَفْسِك} لا على اعتقاد أنه من القرآن، بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا: إنه استفهام على سبيل الانكار، ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى، قوله تعالى بعد هذه الآية: {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} يعني ليس لك إلا الرسالة والتبليغ، وقد فعلت ذلك وما قصرت.
{وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 166] على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله، ونظيره قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيء} [آل عمران: 128] وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص: 56] فهذا جملة ما خطر بالبال في هذه الآية، والله أعلم بأسرار كلامه.
ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه.


{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}
والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا، فان من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق، فان أحداً من الخلق لا يقدر على إرشاده.


واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا، فانك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين في مجلس واحد، ثم إن أحدهما يزداد إيماناً على إيمان عند سماعه، والآخر يزداد كفراً على كفر عند سماعه، ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه، ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر، ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محباً، فمن تأمل للبرهان القاطع الذي ذكرناه في أنه لابد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود، ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذي ذكرناه، ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره، فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل، ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل في قلبه هذا الاعتقاد، عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه. بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله، لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله: {واتبعوه} [الأعراف: 158] والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير، فكان الآتي بمثل ذلك الفعل مطيعاً لله في قوله: {واتبعوه} فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وفي جميع أفعاله، إلا ما خصه الدليل، طاعة لله وانقياد لحكم الله.


المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في باب فرض الطاعة للرسول: ان قوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} يدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن، ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن، فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول، وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله، هذا معنى كلام الشافعي.
المسألة الثالثة: قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} يدل على أنه لا طاعة إلا لله ألبتة، وذلك لأن طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو فيه رسول لا تكون إلا طاعة لله، فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله.
قال مقاتل في هذه الآية: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهي أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية.
واعلم أنا بينا كيفية دلالة الآية على أنه لا طاعة ألبتة للرسول، وإنما الطاعة لله.
أما قوله: {وَمَن تولى فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ففيه قولان:
أحدهما: أن المراد من التولي هو التولي بالقلب، يعني يا محمد حكمك على الظواهر، أما البواطن فلا تتعرض لها.
والثاني: أن المراد به التولي بالظاهر، ثم هاهنا ففي قوله: {فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} قولان: الأول: معناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولي وأن تحزن، فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي، والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم، فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عليه الصلاة والسلام عن ذلك الحزن.
الثاني: أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك التولي وهو كقوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد.

18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25